اول مجلة صحراوية مستقلة تأسست 1999

مجلة المستقبل الصحراوي

مجلة المستقبل الصحراوي

الصناعة التقليدية الصحراوية ارث تاريخي ثمين

كتب بواسطة : futurosahara on 06‏/12‏/2011 | الثلاثاء, ديسمبر 06, 2011


محمد حسنة الطالب
إن المتأمل في تاريخ البشرية منذ النشأة ، يجد أن الحاجة هي أم الاختراع ، وان الغاية تبرر الوسيلة ، فالإنسان لم يخلق ليعيش مكتوف الأيدي ، بل كان عليه أن يشقى ليعيش ، وأن يوفر كي يكتفي ، وعلى هذا الأساس انتشرت مختلف الحرف التي زاولها الإنسان مع مرور الزمن ، وكانت نواة للعديد من الصناعات التقليدية التي جاءت فيما بعد لتطوير الأداة وابتكار الوسيلة .

من هنا تكون هذه الصناعات التقليدية قد دخلت إلى ثقافات الشعوب والأمم من بوابة تاريخها العريق ، وهنا لا يمكن الحديث عن أي ثقافة بمعزل عن هذه الصناعات ، كونها عنصرا مهما وثمينا كان وما زال يبلور حياة المجتمعات عبر التاريخ ، بل وظل يعكس أصالتها وتميزها في الوجود عبر مراحل حالكة ، استهدفت فيها الثقافة كمقتل للكيانات والقضاء عليها بطمس هويتها ومحو آثارها في الوجود .

إن الصحراويين باعتبارهم ، مجموعة بشرية كسائر المجتمعات ، لهم ما يميزهم هم الآخرون في هذا الشأن ، فتاريخهم حافل بالخصوصية والتميز ، مثلما يبرهن على ذلك ماضيهم وحاضرهم الزاخرين بالانجازات والمكاسب ، لاسيما في ميدان الصناعة التقليدية ، هذا الميدان الذي شكل فيه الصانع التقليدي رأس الحربة في التصور والإبداع ، حتى صار مصدرا وممولا للعديد من الحرف القديمة ، بل ويعول عليه في الكثير من متطلبات الحياة ، وفي هذا الإطار لا يكاد يخلو أي نشاط عملي أو حرفي من أداة صنعها صناع أو صانعات تمرسوا كلهم حتى غدت الحدادة والنجارة وصناعة الجلود وبعض الأعمال الأخرى حكرا عليهم ، إضافة إلى العديد من الحرف الأخرى التي أتقنوها وكانت تنسب لغيرهم في أحايين كثيرة ، وهنا تبرز عبقرية الصناع التقليديين ومهارتهم وذكاؤهم في التمرس وقدرتهم على فهم واستيعاب كل ما حولهم ، وهذه حقيقة يجهلها أو يتجاهلها الكثيرون ، نتيجة ربما لتعصب زائف أو نظرا لجهل وغياب للتأمل .

ففي مختلف المجتمعات وعلى تعدادها واختلاف أعراقها ، يحظى الصانع التقليدي بتقدير واحترام ، وبمكانة لائقة اعتبارا لذكائه الحاد وعمله الشريف ، بل وتوفر له فوق ذلك المساعدة اللازمة والظروف اللائقة للعمل ، وهو الشئ الذي ينعكس إيجابا على مردوده الذي جنت ومازالت تجني الكثير من المجتمعات ثماره من فكر خلاق ومن صناعات طورت مع الوقت ، من بسيطة ، إلى متوسطة وثقيلة ، وكان لها في الواقع دور كبير في ازدهار الكثير من المجتمعات اقتصاديا .

من هنا اطلع الشعب الصحراوي المكافح على أهمية الصناعة التقليدية ، فأعطاها حيزا هاما إبان الثورة وفي أثناء الحرب الضروس ، حتى أصبحت رصاصة من رصاص التحرير، تفتك بكل من يشكك في هوية هذا الشعب وعراقته في التاريخ ، حيث أدت الصناعة التقليدية رسالة مفادها الأصالة والعراقة لشعب عانى المظالم وسهرته المناورات على مدى طويل من الزمن ، مثلما رسخت هذه الصناعة أيضا إرادة الحياة لهذا الشعب المقاوم وقوت ارتباطه بأرضه ، وبأصالته وتراثه ، وكانت من العوامل التي أزالت الغشاوة التي فرضت عليه جراء تعتيم الأعداء ونكرانهم لأثره المتميز في الوجود .

على أرض الساقية الحمراء ووادي الذهب برزت الخيمة الصحراوية كسكن مميز وعريق ، بفكر وإرادة الإنسان الصحراوي في البقاء ، وبرؤيته الثاقبة لخصوصية حياته وطبيعتها المتشعبة ، فكانت الخيمة الصحراوية الأصيلة بشكلها الهرمي تتسع لمختلف الأغراض ، حيث تعد مسكنا لأهلها وللضيوف ، وفي نفس الوقت هي معمل و مجمع لمختلف الحرف التقليدية ، التي ظلت تلبي حاجة الإنسان الصحراوي في تدبير شؤون الحياة ، وتوفير الاكتفاء الذاتي .

تحت هذا الصرح العظيم لعبت الصناعة التقليدية بمختلف أنواعها وأشكالها دورا هاما في حياة المجتمع الصحراوي ، لا سيما في جوانب هامة وأساسية ، أمنت لهذا الإنسان البدوي سبلا للعيش ، ووفرت له الآمان والاطمئنان ، بعد أن شحذت سيوف المقاومة والنضال ضد كل جائر جبار ، ولعل ما أنتجته الصناعة التقليدية من أدوات مختلفة ووسائل عديدة كان السر في نجاح الصحراويين في الكثير من مناحي الحياة ، فباستغلال وبر الإبل وشعر الماعز قامت صناعة النسيج والخيمة أكبر مثال على ذلك ، بالإضافة إلى نسيج " لغراير، ولغرظ" ، وعلاوة على نسيج الحصير و"آكساكيس من نبات أسمار" ، ونسيج "الشملة" وبعض الأغراض الأخرى من بعض النباتات "كأجريد أنخل" ، و"تبليت الطلح" وغيرها ، ناهيك عن جانب الخياطة ودورها الذي لايستهان به ، فبفضلها التأمت مكونات الخيمة من "فلجة وأمطانب" ، وكل أنواع القماش المختلفة التي تزينها من الداخل ، هذا بالإضافة إلى حياكة الملابس وترقيعها، والى استعمالها في التطريز أحيانا .

وفي مشهد الخيمة الصحراوية دائما يتعانق الذوق الرفيع والمهارة العالية ، ويتجلى الإبداع الرائع والصورة الجلية للصناعة التقليدية الصحراوية ، ففي ظل وإلى جوار الخيمة أيضا ، قامت الصناعات الجلدية التي تبدأ بدباغة الجلود وتوظيفها فيما بعد في صناعة العديد من الوسائل والمستلزمات الجلدية المختلفة ، "كاصرمي ، التاسوفرة ، أليويش ، الفرو والتزاية" وغيرهم ، وفي هذا أيضا جادت قرائح وأبدعت أنامل ، حيث لا تخفى على أحد تلك الزخرفة وتلك الزركشة الدقيقة ، التي هي في النهاية بصمة آية في الجمال لنساء حرفيات تذوقن نكهة التجربة وحرصن على إدمانها بلمسة متميزة وفريدة .

إن المتتبع لميدان الصناعة التقليدية الصحراوية ، سيجد أنها لا تقتصر على النساء فقط ، لأن ما تستعمله النسوة من أدوات فيما يقمن به من أعمال ، هو في الأساس من صنع رجال حرفيين مهرة يرجع إليهم دائما في فن الابتكار والتصليح ، خاصة وأنهم يتقنون التعامل مع العديد من المعادن سواء كانت صلبة أو مرنة ، ويستطيعون جعلها مطاوعة بفعل نار الكير وتحت تأثير الضرب المتواصل بين المطرقة والسندان ، وهذه طريقة يتحول بفضلها الحديد أو الفضة أو النحاس ، أو الألمنيوم إلى أداة أو وسيلة لمن يحتاجها أو يطلبها ، كأن تكون في شكل " سكاكين ، أمخايط ، خلالات للخيمة ، طبلة ، مكسرة ، أمجامر ، أمراغا" وغيرها ، وفي بعض هذه الأدوات أو المستلزمات غالبا ما يترك الصانع التقليدي لمسة فنية تتجلى في "أنكاشة" ، أي تلك الزخرفة التي غالبا ما تكون منقوشة على بعض المصنوعات من الفضة خاصة ، أو من النحاس ، من الألمنيوم أومن بعض أنواع الخشب المعروفة "كأ جداري" مثلا .


إن مشقة هذه الصناعات ، وما يلازمها من تعب وتركيز ، هو ما جعل الصناع التقليديين يعتزون بعملهم هذا الذين يجنون ثماره من عرق الجبين دون كلل أو ملل ، ولهذا لم يسلموا أبدا لقساوة الطبيعة ، ولا لاكراهات الحياة ، فكان أن جعل الرجال الحرفيونن من الصناعة التقليدية رمزا واكتفاء للكل ، وقناعة ومكسبا لأسرهم الصغيرة ، وتجلت بذلك خبرتهم في كل مناحي الحياة وأعطوا بصدق وأمانة ، ودون خيبة أو تقاعس ، والأكثر من ذلك لم يحتفظوا لأنفسهم بسر المهنة ، بل علموه لمن أراد خبرة ومعرفة دون مقابل ، وهنا يكونون قد أحيوا روح التراحم والتآزر بين الناس وبين أفراد المجتمع عامة .

في رحاب الخيمة كذلك جال الصانع التقليدي وقطع من أشجار "الطلح وأجداري وتشيط" وغيرهم خشبا ووظفه مادة في الكثير من الصناعات الخشبية ، التي صممت منها وسائل عديدة "كالراحلة ، ولحرج ، وآمشغب والمحراث ، والمهراز" وغيره كثير، هذه التصاميم التي لا ينتهي العمل في بعضها أحيانا إلا بلمسات جلدية محبوكة تقوم بها صانعات لهن ذوق رفيع في اختيار الألوان ، ودقة متناهية في وضع الزخارف ، وهذا ما يلمسه جليا من يعاين "الراحلة أولحرج" مثلا .

وبالإضافة إلى القطاعات الصناعية التقليدية الهامة ، والتي تتجلى في الصناعات النسيجية والجلدية ، المعدنية والخشبية التي مارسها الإنسان الصحراوي منذ القدم ، هناك قطاع آخر يتمثل في بعض الصناعات من الحجر ، وهذا غالبا ما يوفر الصانع التقليدي أدواتها من قاطعات ومعاول ، وكثيرا ما يهم لممارسة العمل فيه ، إلا أنه ليس حكرا عليه بقدر ما هو متاح للعديد من الحرفيين الآخرين، ومن هذه الصناعات نجد الرحى التي يتجسد في صنعها فن النحت الذي لم يكن مشتهرا كثيرا عند الصحراويين .

كل هذه الصناعات التقليدية ، أفرزت كما تراثيا هائلا من الوسائل والأدوات التي مازال بعضها مستعملا إلى حد الساعة ، وهذا ما يجعلها حاجة اقتصادية كانت ومازالت مطلوبة ، لا سيما ثقافيا ، وحتى دبلوماسيا عندما يتعلق الأمر بالمشاركات الخارجية للتعريف بهذا الشعب المناضل وبقضيته الوطنية العادلة ، وعلى هذا الأساس يرى الحرفيون الصحراويون أن العناية بالصناعات التقليدية وايلاء الاعتبار للقائمين بها وخاصة الصناع الذين يشكلون النواة الأساسية في كل عمل حرفي ، هو بدون شك ضمان لتواصلها عبر الأجيال وجعلها تحقق نقلة نوعية على طريق التجديد والابتكار بما يخدم القضية ويحقق الاكتفاء الذاتي في بعض من جوانب الحياة ، وهنا لابد من التشجيع وخلق الحوافز في هذا الميدان ، ليمضي كل الحرفيين في تفاؤلهم من أجل التأسيس لنهضة صناعية صحراوية متميزة في المستقبل ، تكون خالية من الركوض والانحباس في المفاهيم والتصورات البالية ، التي طبعت ماضي هذا الشعب وحالت دون تطوره وتقدمه في هذا المجال .